الجمعة، 19 نوفمبر 2010

"الناتو": قمة تاريخية ببرشلونة.....؟


"الناتو": قمة تاريخية ببرشلونة.....؟

حافظ الجندوبي


منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" قمّة تاريخية في برشلونة تصوغ و ترسم الذراع العسكري لعالم جديد متعدد الأقطاب، فهل تنجح في ذلك؟

كان لسقوط نظام العالم الثنائي القطبية تداعيات أيضا على مرتكزاته و أسسه، حلف الناتو اعتبر طوال الحرب الباردة الذراع العسكري للولا يات المتحدة الأمريكية و الغرب الأوروبي في مواجهة حلف وارسو التابع للمعسكر الشيوعي، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي و تفكك حلف وارسو و تغيرت الخريطة الجيوسياسية و الجيواستراتيجية للعالم مما حتم ايضا مراجعة لمهام و أهداف و استراتيجيات و آليات المواجهة عند المعسكر المقابل أي الرأسمالي.

مراجعة الفلسفة و العقيدة العسكرية و الايديولوجية التي قام عليها حلف الناتو ظهر كمعطى أساسي في العلاقات الأمريكية و شركائها من الأوروبيين اللذين سعو الى استراتيجية دفاعية و عسكرية خاصة بهم لكن سخر منهم الأمريكان و وصفوا أوروبا "بالقارة العجوز" و التي تحتاج الى العكاز الأمريكي، و قد عملت الادارات الأمريكية ما بعد الحرب الباردة على تسخير الناتو ليكون ذراع يضمن التفوق و الهيمنة الأمريكية في عالم أحادي القطبية

الأوروبيون ابتلعوا الاهانة الأمريكية و تبين لهم أنهم محتاجون أكثر لانقاذ مصالحهم في العالم فالأمريكان بدأوا بطرد المصالح الفرنسية في افريقيا و و أسواقها الاقتصادية لكسر الكبرياء و الاستثناء الفرنسي خاصة.

لكن في نفس الوقت بدأت الولايات المتحدة... الأمريكية تصلها اشارات سلبية بخصوص رغبة الهيمنة و الحلم الامبراطوري الأمريكي من قبل حلفائها بالأمس، الأوروبيون شعروا بانتفاء الحاجة الى مواصلة التضحيات السابقة بسسب الصراع الايديولوجي لكن بسقوط العدو الشيوعي، اصبح كل طرف يبحث عن مصالحه و تحالفاته الاقتصادية و السياسية.

بالنسبة للأمريكان كان حدث 11 سبتمبر فرصة او حدث صنع لتبرير الوصاية الأمريكية و هيمنتها على العالم،و أصبح "الارهاب الاسلامي" العدو الأخضر الجديد اللذي لا يهدد فقط الولايات المتحدة الأمريكية بل يهدد العالم الحر عالم الخير و الجمال الغربي.

في اطار من التعاطف الحضاري و السياسي، و الالتباس و الشعور بجنون العقل الأمريكي انخرطت اوروبا في حرب أمريكية على عدوهم الجديد، لكن في نفس الوقت شعرت اوروبا انها لا يجب ان تتورط كثيرا في الاستراتيجيات المريكية الجديدة، و سرعان ما تصاعدت الخلا...فات من جديد كان من ابرزها الخلاف المريكي - الفرنسي- الألماني من الحرب على العراق ثم الخلاف الأمريكي - الفرنسي حول افغانستان.

لقد فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في صياغة خريطة العالم كما يحلو لها و فشلت أو ساهمت اطراف كثيرة في افشال تحقيق أهدافها العسكرية و السياسية كما رسمتها، فعدلت استراتيجياتها العديد من المرات و انتهى باعتراف" اوباما" في خطاب تنصيبه أنه يجب الاقرار بتراجع القوة الأمريكية و دورها في العالم.

بعد نهاية الحرب الباردة توجهت القوى و الأطراف الدولية لتغيير و اصلاح منظمة الأمم المتحدة بما يتماشى مع معطيات و تحولات الواقع السياسي للعالم، لكن المهمة كانت صعبة و بقيت الأمور مجمدة وهي بالأحرى اجلت و سيعاد فتح الموضوع قريبا.

فمنظمة الامم ال...متحدة هي المنظمة السياسية التي تعطي الشرعية لخلاصة ما اتفق عليه في الأرض لذلك كان بديهي أن تتعطل منذ البداية

فالسياسي بات يأتي ديائما متاخرا لاضفاء الشرعية و تحديد طبيعة العلاقات الدولية على ضوء التوازنات و القوى الحقيقية على الأرض، هكذا بنيت عصبة الأمم و هكذا سخرت منذ بدايتها.

المؤسسات الاقتصادية العالمية(البنك الدولي، صندوق النقد الدولي و قمة الدول العشرون الأولى) سبقت السياسي و العسكري، كان اسهل للاعتراف بقوى اقتصادية كبرى جديدة بل كانت هذه السنة اي 2010 سنة تغير استراتيجيات و مفاهيم هذه المنظمات الاقتصادية للتنمية
و لمعادلة الدولة و السوق، مفاهيم جديدة بشرت بعالم اقتصادي جديد زادت الأزمة الاقتصادية في اعطائه مبرراته .

قمة برشلونة ستكون تاريخية من حيث أهمية الاتفاق على مفهوم استراتيجي جديد ياخذ بعين الاعتبار التعدد على مستوى اقتصادي سياسي، و اذا تفقوا اليوم فهذا سيفتح المجال من جديد للعودة لتحيين منظمة الأمم المتحدة بما ينسجم مع عالم متعدد الأقطاب.


حافظ الجندوبي

الأحد، 19 سبتمبر 2010

هل من عصر أنوار إسلامي؟

هل من عصر أنوار إسلامي؟ (جزء1)

حافظ الجندوبي

عصر أنوارنا الاسلامي و نهضتنا ستكون مثلما الغرب مرتبطة بموضوع أساسي ألا وهو الدين،الغرب عرف الإصلاح الديني كمدخل للنهضة، وفي واقع الأمر و التاريخ ، الغرب لم يشهد إصلاح ديني بل شهد عملية تحديد سياسي للمجال الديني سوغته مبررات فلسفات جديدة مع لوثر وكالفن ، وإعادة القسيسين و البابا إلى كنائسهم و رهبانيتهم، وما لله فهو لله و ما لقيصر فهو لقيصر ،أما نحن ففعلا مطالبون بالإصلاح الديني لكن ليس على طريقتهم بل على طريقتنا ليس عن طريق علمانيتهم بل عن طريق إسلاميتنا، فالأمر كله لله ،الإسلام لم يعرف تشويها ولا تحريفا في مصادره بل كان على الدوام محفوظ،" إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"و بالتالي فالإسلام لا يشكل عائقا نحو التقدم و تحقيق النهضة بل هو شرطها الأساسي في حالتنا وواقعنا،الإصلاح يهتم و ينشغل بإعادة فاعلية الدين لواقعنا و ليس إبعاده،بإحياء الدين في روحه ومعانيه ومقاصده في مجتمعاتنا، ربط القول و الفعل و العمل بالدين و ليس فصلهم عنه و تحويلهم إلى جزر مقطوعة عن كل تواصل به ، يكون الإصلاح بنفض الغبار عن جوهر الإسلام و تلك الروح التي تنزلت فبثت في العرب دماء جعلت قبائلهم المفرقة وجاهليتهم الطويلة حولتهم في بضع سنين إلى بناة حضارة ومشيدي مدن ومساهمين في إنتاج العلوم وتطويرها ونقل التراث الإغريقي و الهندي والفارسي و المحافظة عليه من الضياع و الاندثار.

والإسلام ليس إسلام للإنسان العربي أو الفارسي أو الهندي هو إسلام الإنسان أين ما كان، و حيث ما وجد ،فالإسلام رسالة لكل البشر منذ صرخته الأولى في جزيرة العرب ، الإسلام في غاياته و مقاصده الإنسان أين ما كان ، الإنسان العالمي بمصطلح اليوم ، قد تتعدد التفاسير و المذاهب بتعدد الواقع و الوقائع البشرية لكن الغاية واحدة ، والسبيل والمنهج من نوع الغاية ،لا يحقق الصالح و الخير إلا بما كان صالحا و خيرا و إلا اضطربت القيم والأخلاق وفسدت الغايات، لا يتحقق العدل إلا بوسائل عادلة و لا يتحقق الأمن بالترهيب ولا تتحقق التنمية بالقمع و بالاستبداد بالبشر وفرض الخيارات قسرا و لهوا،يضاف إلى هذا أن الإسلام يلاقي تحديات عالمية لا تقل شأنا عن تحديات المحلي والإقليمي و خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر..... و أصبحت فرصة عالمية الإسلام سانحة أكثر من أي وقت....... وٌضع الإسلام في التحدي عالميا و نوعية الاستجابة الإسلامية بطبيعتها كانت لا بد أن تكون عالمية..... و أصبح الإسلام مطلوب على أكثر من جهة ،جهات أمنية واستخباراتية بتهمة الإرهاب ، وجهات بحثية من طرف مراكز الدراسات و خزانات الأفكار لوضع الدراسات بين يدي راسمي السياسات و متخذي القرارات في الغرب ، وقد يتخذ شكل فوبيا و عنصرية ضد كل من ينتسب إلى الإسلام عند البعض ، كما صار الإسلام مطلوبا من طرف العديد من الغربيين و الشرقيين بحثا عن الحقيقة و عن غير المألوف عندهم و تراهم يدرسون و يتابعون كل ما يتعلق بالإسلام و المسلمين بحثا و استكشافا ولما لا إيمانا و إعلانا للإسلام .

وهذا التحدي العالمي على الإسلام لا يواجهه المسلمون إلا بإثبات إمكانية إسلام عالمي وإسلام يقدم خيرا لكل البشرية مؤمنيهم به و كافريهم به.

لا عقدة للإسلام و المسلمين اتجاه أي إيديولوجيا فانه لا يحق لأي إيديولوجيا التباهي بتفوقها فكل الإيديولوجيات تفوقت أيضا في تحطيم الإنسان و استغلال الإنسان و في حرق الأرض من تحته و إفساد السماء من فوقه و تلويث البحر من حوله، و كلها مدعية خدمة الإنسانية و التقدم بالمجتمعات....تارة بشرعية الدولة و الجماعة و الحزب الواحد فسحق الفرد في قيمه و حريته و معتقده،وأخرى بشرعية الفرد و الفردانية فسحقت الجماعة في حقوقها الاقتصادية والاجتماعية و شرع للاستغلال و النهب الواسع للشعوب و المجتمعات من أجل الرأسمال الفردي و أناقة رجل الأعمال ورفاهته المفرطة و بدانته و جواريه،

وكل الإيديولوجيات جربت فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر في انتظار البدائل الإنسانية المنقذة، وعلى هذا الأساس لا يحق لأحد نفي الآخر و إلغاء الآخر و إقصاء الآخر، و أن الجميع له نفس الفرص و الحظوظ و الحقوق بالتساوي في التواجد و التعبير عن الذات و محاولة التطور و البعث من جديد...و في النهاية لا نحتاج إيديولوجيات تعيش و بشر يموتون... و لسنا في حاجة إلى إيديولوجيات سعيدة و بشر تعساء و أشقياء.....

انتهى زمن الحتميات التاريخية و إن كان هناك من حتمية فهي اللاحتميّة،كل شيء مفتوح على خيارات و سيناريوهات متعددة علمنا منها ما علمنا وغاب عنا ما غاب، و أبان المنهج الديكارتي و العقلانية الصارمة عن عجزها و قصورها في فهم عالمنا الجديد هذا العالم الذي يزداد تعقيدا و تركيبا و صعوبة في فهمه بما نمتلكه من مناهج ومفاهيم و هو بالتالي يطالبنا بطرق تفكير جديدة و بأدوات فهم و تحليل تتناسب وتعقيداته و تركيباته الجديدة و تحدث سيمون عن العقلانية كأداة اجرائية (Rationalité Procédurale) في تراجع عن العقلانية كغاية مطلقة التي أدرك أننا عاجزون و يستحيل أن نحققها(Rationnalité Substantial) وتحدث مورن Morin عن التفكير المنظوماتي (Approche Systemique ) و التفكير المعقّد ((Pensée Complexe وهي مقاربات تأخذ في عين الاعتبار ظواهر التعقد والتركيب و اللاتوقع و الانفلات عن الضبط التي باتت تتسم بها قضايا عصرنا و مشاكله ، وتتغير مناهج بناء الأنساق والمفاهيم و النظريات المعرفية ( ( les modèles و أصبح ما يعرف Interdisciplinarité)) بالتداخلية أو التعددية الاختصاصية و transdisciplinarité créative و pluridisciplinarité يتجه لتعويض الاختصاصية الصارمة الأحاديّة، وتطور الفكر الاستراتيجي التقليديpensée stratégique إلى التفكير الاستراتيجي الاستشرافي(la prospective stratégique) ، و الخطابات المتعددة المستويات(multidescours) في الفهم و التحليل بدل الخطاب الأحادي(l’unidescour) المتفرد بالفهم و النظر، و نحن هنا و هناك و كأننا تعاهدنا أن لا نغيّر مكانا !!!! وكل هذه تبقى مناهج نستعين بها لا أديان جديدة، وكل هذه تبقى مناهج قابلة للمراجعة و التغيير و التجديد و ليست نظريات نهائية و متكاملة...وهي مناهج لا تعوض منظومات قيمية أو أخلاقية أو إيمانية بل هي أدوات تحليلية وصفية....

و بالرغم من كل ذلك فالغرب اليوم مثل البارحة يقر بمآزقه الفلسفية و الفكرية والإيديولوجية وهو صانعها،الغرب يقر بمحدودية مناهجه العلمية و تفتحها على إشكاليات جديدة ليس لها أجوبة في الوقت الحاضر، الغرب يقر أن التقدم العلمي و التكنولوجي قد فتح البشرية على سيناريوهات جديدة غامضة غير مفهومة في اتجاهاتها و مساراتها؟ ففي ما نكابر و نحن المقلدون، ونحن التابعون، ونحن المترجمون الحرفيون؟

أصبحنا نصنع عوالم أجمل و أكثر حداثة و عصرنة لكن بإنسان أكثر تعاسة و شقاء،إنسان سعادته وهمية قابلة للضياع و التلاشي في أي لحظة لأنها سعادة تملك و ليست سعادة كينونة،لأنها سعادة في كم أملك و ماذا أملك؟ في ماذا أستهلك وكم أستهلك؟ و ليست سعادة في من أكون أنا نفسي؟ أصبحت سعادة مرتبطة بعبودية للأشياء؟ و ليست مرتبطة بالحرية و التحرر من الأشياء و إعلاء للقيم و صنع للذات و إثباتها؟ ولعل هذا هو الفرق بين فهم الإسلام لسعادة الإنسان الحقيقية و فهم الإيديولوجيات لسعادة الإنسان المتخيلة و كيفية صناعتها؟

و ليست التقدمية التي تحتل صدارة و دعوة كل إيديولوجية، فكرة مجردة عن ممارسة ومثال مجرد عن واقع فكل تقدمية تقاس بما تقدمه من خير و نفع للإنسان وتوسيع حريته في التفكير و الاختيار، وقطع سلاسل الجبر و العدمية التي صنعها له أخوه الإنسان ووهم التاريخ الذي نصنعه و من ثم يأسرنا و ندعي انه لا حول لنا و لا قوة أمامها !!!! فأحاطت به لتجعله شبه إنسان مقعدا و معتقدا أن هذا الوضع لا انفصام عنه !!!و ما هي في الحقيقة سوى أوهام و أضغاث جهل ونوازع للقعود و التخلف والتواكل.

السبت، 11 سبتمبر 2010

علوم المستقبل.....بداية

علوم المستقبل.... بداية
حافظ الجندوبي

« Voir loin, large, profond, prendre des risques, penser à l’homme » Gaston Berger
(1964)


المستقبل لم يعد غيب بل هو عملية صناعة، لقد تمكن الغرب بعلومه و تقدمه التكنولوجي أن يسيطر على أنواع الجغرافيات المكانية و له فيها كل السبق، إنها سيطرة شبه كاملة على المجال الأرضي الواقعي عن طريق وسائل المواصلات والاتصال و أقماره الصناعية و طائراته التي تملأ الفضاء، وهاهو الآن ومنذ عقود يتنقل لجغرافية الفضاء في رحلات مكوكية متتالية لاكتشاف الفضاء و لما لا تسخيره، وها هو كذلك يسيطر على الجفرافية الافتراضية و الرقمية بل بيده مفاتيح فتحها والوصول إليها.
لم يعد المكان وحده معني بسيطرة الغرب بل صار الزمن الذي كنا نظنه غيبا مطلقا محل تنافس في إطار ما يعرف بعلوم المستقبل أو علم المستقبليات أو علوم الاستشراف الاستراتيجي و ذلك في مختلف مدارسه و منطلقاته المتعددة، و لكن يبقى الهدف الأساسي هو ضمان سير المستقبل لصالح دوله وشعوبه
إن الزمن كما المكان إحداثيات و قوانين يخضع الثاني لقوانين الفيزياء و الحسابات الرياضية ومعادلاته، و كذلك الأول يحتوي على إحداثيات وقوانين تسعى نحو أن تكون قوانين منطقية و عقلية بما توفره علوم التاريخ و الفلسفة و العلوم الإنسانية و الاجتماعية في إطار من الفهم المتعدد الاختصاصات ليقرب إلينا كيف بالإمكان جعل المستقبل بيدنا و ليس بيد المفاجآت و الغيبيات التي طالما اعتقدنا فيها بطريقة خاطئة و قاصرة.
إن علوم المستقبل Futurologieليست فقط مسالة نظرية تحوم في يوتوبيات حالمة أو افتراضات و تخمينات مبنية على معطيات سابقة بل تحولت إلى عملية صنع صور للمستقبل و بناءات مستقبلية مجتمعية و تحويلها إلى واقع،فالمستقبل دخل في إمكانيات الفعل الإنساني و في إمكانية حرية أوسع حتى من الحاضر نفسه الذي شكل و انتهى أمره،خياراتنا نحو المستقبل أصبحت أكثر إمكانا من الواقع الحاضر نظرا لتعقيداته و تداعيات الماضي الثقيلة عليه.
بل إن الفعل الإنساني أصبح يراهن على المستقبل أكثر من الحاضر نفسه الذي يعاني من عملية اكتمال و إشباع و ضعف هوامش الحرية والخيارات فيه، و لا يعني هذا بالطبع إلغاء الحاضر لفائدة المستقبل لأن إمكانيات أي تصور في المستقبل لا يمكن أن تبنى من فراغ أو تتشكل على هواء، بل الحاضر بما هو واقع هو الملهم الأول و المعين الأول على حسم العديد من الخيارات مستقبلا.
« Regarder l’avenir bouleverse le présent » Gaston Berger

وفي إطار هذا التنافس للسيطرة على الزمن بعد السيطرة على المكان تسبح عديد المدارس والمقاربات النظرية و العلمية تحاول و تعمل مراكز الدراسات الإستراتيجية و المستقبلية على تحويلها إلى معطيات مهمة في بناء السياسات و اتخاذ القرارات السياسية المختلفة.
قصة رغبة سيطرة الإنسان على الزمن قديمة و ليست أمرا مستجدا تكمن في يوتوبيات المدينة الفاضلة و الإيديولوجيات المختلفة التي سعت لبناء مجتمعات أفضل ترنو نحو المثالية،كانت رغبة الإنسان في السيطرة على الزمن تخضع لأسباب مختلفة وهي تستمد شرعيتها من نزعات تعويضية على فقدان الأمن و العدل و الحياة المثالية و الخوف من الموت و الهلاك
و تسعى المجتمعات و الدول دائما إلى أن تحافظ على قوتها و تقدمها لذلك تحاول وضع المشاريع المستقبلية التي تضمن لها نصيب من الأمن و القوة و التقدم.
علوم المستقبليات هي علوم غنية و تستمد غناها من حاجتها إلى معظم العلوم الأخرى و فروعها وهي عملية علمية معقدة نوعا ما و تستحق جهود كبيرة كمراكز دراسات و استشارات بتمويلات غير هيّنة و بكفاءات متنوعة و متكاملة، انه علم يحتاج لجهد بشري جماعي في إطار من الديمقراطية التشاركية ومن هنا تستمد خيارات المستقبل مشروعيتها،
ولا يزال الجدل قائما و لا تزال العقول تسيل بالأفكار حول موضوع علم المستقبليات أو علوم الاستشراف التي تعتبر من الناحية العلمية جديدة مقارنة بعلوم أخرى، وان كانت من حيث الأهمية و الحاجة و التعبيرات الفلسفية قديمة قدم الإنسان نفسه، حتى و إن ذهبنا إلى إمكانية طرد أفكار مفرطة في التفاؤل حول إمكانية السيطرة على المستقبل سيطرة على الزمن...فان مثل هذه العلوم لا غنى عنها فهي تمدنا بأدوات خلاقة في التفكير و التخطيط و الاستشراف و الاستباق يحتاجها الفعل الإنساني اليوم في مختلف مستويات القرارات و السياسات، للتنمية المستقبلية، وان محاولة اكتشاف نصيب العرب والمسلمين وحظهم من هذا العلوم أخاف أن أقول إنها قريبة جدا من نصيبهم المحتمل مستقبلا في هذا العالم و اترك لكم الأمر للتخيل.......
فما هي مجالات علم المستقبل؟ و ما هي إمكانياته وحدوده و مرجعياته الفلسفية و النظرية؟
ما هي أدواته؟ وما هي حدود الاختلاف و التكامل بين المدارس الموجودة و خاصة بين المدرسة الأوروبية و المدرسة الأمريكية؟ وهل يمكن للعرب و للمسلمين أن تكون لهم نظرياتهم ومدارسهم المستقبلية على غرار" الحق في الاختلاف الفلسفي" كما يقول طه عبد الرحمان؟
ما هي مجالات استخدامهما؟ وما هي أهم الملاحظات النقدية الموجّهة إليهما؟
و أي مستقبل لعلم المستقبل؟
و أسئلة أخرى....

الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

الشباب في سنته الدولية :الإصلاح الشامل هو المطلوب و الإصلاح السياسي هو المفتاح

الشباب في سنته الدولية

الإصلاح الشامل هو المطلوب و الإصلاح السياسي هو المفتاح


حافظ الجندوبي



الشباب هذه الأيام محل اهتمام السياسات الوطنية وهذا أمر يدلّ على أن هناك مشكل حقيقي فطبيعة أنظمتنا العربية تعوّدنا أن الاهتمام بموضوع لا يكون إلا بعد استشعار المخاطر و أحيانا بعد أن تتعقّد الأمور عليها بشكل كان ممكن تفاديه بسياسات استباقية و استشرافية و بسياسات أكثر عمقا و جدوى بعيدة عن الظرفية و السطحية و المعالجات الأمنية، ومن المهم أيضا التركيز على فئات اجتماعية و سكانية بمقاربات التمييز الايجابي ن ومن المهم أيضا التركيز على سياسات قطاعية محدّدة،لكن من المهم النظر جيدا في مقاربة شمولية و شاملة للإصلاح، و في اتجاه عمودي و أفقي يستهدف الإنسان و المواطن التونسي بصفة عامة في تقاطع مع السياسات و البرامج المخططة من قبل الدولة ،و لا يوجد انفصال وتناقض بين الاهتمام بالشباب و في نفس الوقت بالمجتمع و بكامل مؤسساته و فئاته، اهتمام بالمواطن التونسي و الإنسان التونسي بصفة عامة، فالاهتمام بالشباب هو اهتمام بتوفير البيئة التي تحيط به و ينشأ فيها و يستلهم منها قدواته و سلوكاته ، هو اهتمام بمعالجة و متابعة لكل السياسات فقبل أن يكون الشاب صالحا لا بد من طفولة صالحة، إذا لا بد من اهتمام بكل السياسات من تعليم و صحة و رياضة و تشغيل و تشريك وتحفيز للمشاركة و الاهتمام بالشأن العام، الاهتمام بالشباب هو أولا اهتمام بالطفولة بتوفير سياسات تعليم صالحة للمستقبل تمكنه من قدرات ومهارات ومعرفة علمية محيّنة تجعله يعيش زمانه، هو أيضا اهتمام بالأسرة و بمقدرتها الشرائية وتوفير الحماية و الدعم الاجتماعي للطفولة ( منحة الأطفال في تونس تقدر ب7 دنانير شهريا عن كل مولود؟؟؟؟) و لما لا منحة أمومة محترمة و سنأتي على موضوع الطفولة في مناسبة أخرى، لكن كل هذا مهم حتى يصل الطفل إلى مرحلة الشباب وهو في قدرة من العطاء و الحماسة ،لا منهكا صحيا وتعليميا و معرفيا و هزيلا ثقافيا و مصاب بكل أنواع سوء التغذية البدنية و الفكرية و الروحية و الأخلاقية............

المقاربة المطلوبة هي المقاربة الشاملة و التي تستهدف معالجة المشاكل و النواقص و التناقضات في البيئة التي يعيش فيها المواطن التونسي بصفة عامة بمن فيهم الشباب التونسي و الذي نعتقد انه لا يعيش على سطح المرّيخ بل هو يعيش في هذا الواقع التونسي وهذه البيئة التونسية و هذا المناخ السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي الذي يفتقد إلى الحيوية ويعاني من جمود سياسي يمنع المهتمين بالسياسة عن ممارستها فما بالك بالعازفين؟ ، أيضا لن ينشأ الشاب في توازن في ظل مجتمع غير متوازن و أسرة غير متوازنة ماديا ووظيفيا، في ظل مجتمع مدني ضعيف و مخترق و أصبح مدرسة للانتهازية و الوصولية و النفاق و في ظل سلطة ترفع شعارات لا تلتزم بها مما أعطى انطباعا عاما لدى الشباب بعدم الثقة في السلطة و في ما تطلقه من مبادرات و دعوات........يتبع

الاثنين، 30 أغسطس 2010

من أجل أحزاب سياسية أكثر فعالية*

من أجل أحزاب سياسية أكثر فعالية*


حافظ الجندوبي

"تحتاج الديمقراطية إلى أحزاب سياسية قوية وذات استمرارية قادرة على تمثيل المواطنين و تقديم خيارات سياسية تثبت قدرتها على ممارسة السلطة خدمة للخير العام".

شرط الانتخابات الحرة الشفافة مناخ سياسي ديمقراطي ومن أحد أهم شروط الحياة السياسية الديمقراطية الظاهرة الحزبية حيث تتواجد داخل النظام السياسي الديمقراطي أحزاب متعددة تتنافس سلميا عبر صناديق الاقتراع على برامج انتخابية تحوز أهمية و انتباه المواطنون الناخبون وكما يشير ماكس فيبر فالأحزاب السياسية تنظيمات عصرية ارتبطت بالدولة الديمقراطية و النظام الحزبي التنافسي.
وتشمل مهام و أدوار الأحزاب السياسية ما يلي:
- التنافس في الانتخابات و تحقيق الفوز فيها سعيا للحصول على قدر من السيطرة على المرافق والمؤسسات الحكومية.
- حشد المصالح الاجتماعية و تمثيلها.
- طرح بدائل للسياسات.
- التحقق من نزاهة القادة السياسيين اللذين سيكون لهم دور في حكم المجتمع و تدريبهم.


تحيط بالأحزاب ثلاث مجالات يرتبط المجال الأول بالحزب كتنظيم و ما يتطلبه من هيكلة و طرق تسيير وتدبير، و يتعلق المجال الثاني بالحزب أثناء العملية الانتخابية(تقييم نجاعة الحزب حملة و برنامجا،امتداد قواعده،....) و يتعلق المجال الثالث بالحزب السياسي وهو في الحكم و ما يقتضيه من مستلزمات. ولكل مجال أهميته و استراتيجياته و هي مجالات تتكامل و في علاقات تفاعلية ومترابطة مع بعضها البعض.
إنه لمن الأهمية أن تكون الأحزاب السياسية مؤسسات سياسية فاعلة و مؤثرة لأنها الضامن لاستقرار نظام سياسي،فالأحزاب القادرة على بناء ذاتها و تطوير قدرتها التنافسية ووضع و إتباع استراتيجيات طويلة المدى لتنمية الحزب هو الضامن أيضا لنجاعة وفعالية الحزب السياسي .




و في هذا الإطار يحتاج الحزب:

1- مبادئ و أسس تنظيمية ديمقراطية :

فالحزب الغير ديمقراطي وهو خارج الحكم ليس بإمكانه أن يكون ديمقراطيا عند وصوله للحكم ، فديمقراطية التسيير الداخلية للحزب من مثل الالتزام بالديمقراطية ومبادئها لا يجب أن يكون مجرد شعارت فارغة من كل مضمون بل على الحزب السياسي الالتزام بممارسة السلوك الديمقراطيو ذلك بالسماح لأعضاء الحزب بالتعبير عن آرائهم بحرية،تشجيع عضوية النساء،تشجيع مشاركة كل الأعضاء و التسامح مع الأفكار المختلفة و الالتزام بما اتفق عليه من قواعد وإجراءات تستخدم في صنع القرارات، ووضع القادة موضع المساءلة تجاه أعضاء الحزب و مؤيديه، واتخاذ المزيد من الإجراءات التشاركية الداخلية في صنع القرار في إطار آليات من الشفافية ومنظومات معلوماتية محيّنة و متوفرة بقدر من العدالة بين الجميع .

2- نظام داخلي واضح و معلن:

و يعتبر النظام الداخلي وثيقة على كل منخرط في الحزب ان يطلع عليها ليعرف ماله و ما عليه و يحتوي النظام الداخلي كوثيقة مؤسساتية أساسية العديد من النقاط كتحديد شروط الانضمام لعضوية الحزب و تصنيف المناصب القيادية و ترتيبها و شرح أساليب اختيار القادة، ووصف دور الوحدات الإدارية المختلفة على المستويات الوطنية و الجهوية و المحلية ووصف العلاقة القائمة بينها و بين بعضها البعض،إلى جانب تأسيس لجان دائمة أو مجموعات عمل لمجالات العمل الهامة مثل وضع سياسة الحزب و الدراسات و التكوين و التأطير و التثقيف السياسي و الدعاية و التمويل و الاتصال.

3- برنامج سياسي و رسائل واضحة المعالم:

يعتبر البرنامج السياسي هو ما يميّز بين الأحزاب في نشأتها و تكوّنها و في مواعيدها الانتخابية وبالتالي علي كل برنامج سياسي أن يتوفر فيه ما يثير انتباه المواطن ثم الناخب( على الحزب السياسي أن يكون قادرا على إثبات أنه يهتم بمشاكل المواطنين و يشاركهم همومهم واهتمامهم بشؤون البلاد وكذلك آمالهم في المستقبل و أن لدى الحزب خطة محدودة و فورية و قابلة للتطبيق لتحسين حياة المواطنين)و أهمية وضع سياسات ذات قاعدة عريضة إلى جانب بناء رسائل واضحة ومقنعة ومفهومة عن الأمور التي يؤيدها و الأمور التي يعارضها ويشرح برنامج الحزب،كما أن الرسائل الأكثر تميزا هي الرسائل الموجزة و تراعي المتلقي بسهولة فهمها و تميزها عن غيرها من رسائل الأحزاب الأخرى، و أن تكون ذات طابع ايجابي و روح ايجابية وتكرار استعمالها و حضورها ثم الالتزام بها ).

4- وضع أنظمة اتصالية و تواصلية فعالة :

الأنظمة الاتصالية و التواصلية بمثابة الجهاز العصبي المؤسساتي، و الأحزاب التي تنجح في وضع منظومات ناجعة و فعالة للاتّصال والتواصل، سيكون حضورها السياسي أنجح وأنجع و ستتمكن من توسيع قواعدها وهاته المنظومات يجب أن تشمل داخل الحزب و خارجه لتيسير مرور المعلومة وانتشارها و انتقالها الأفقي و العمودي، والتقاط مشاغل المواطنين و اهتماماتهم و مواقفهم و التي يجب أن تكون حاضرة في صياغة البرامج الانتخابية ،و فهم التحولات المحيطة بالمواطنين حتى لا يبدو الحزب عاجزا عن توفير الإجابات الممكنة والسياسات المحتملة لمواجهة الأوضاع التي تقلق المواطنين فعملية الاتصال و التواصل الحزبيين تبدو عملية أيضا في اتجاهين( رسائل ونشرات إخبارية و طبعات خاصة تحيينية للمعطيات توزع على الأعضاء، الاتصال عن طريق بناء التقارير الجيدة و الدقيقة و الشاملة من الجهوي إلى الوطني، إلى جانب أهمية الوسائل الاتصالية الحديثة كالبريد و البلاغ الشخصي و التليفون ووسائل الإعلام المطبوعة و المرئية والمسموعة و تكنولوجيات الاتصال الحديثة كالانترانت و البريد الإلكتروني و الرسائل القصيرة) و يجب أن تراعى في عملية الاتصال والتواصل ما يسمى بالتناسب المكاني و الزماني و الأفضلية في اختيار وسيلة الاتصال وبهذا يخلق نظام واضح لتسلسل السلطة و التسلسل في صنع القرار،،كما يجب على الحزب وضع استراتيجيات أساسية واضحة لاستقطاب أعضاء جدد و تنشيط أعضاء الحزب، واستراتيجيات لجمع الأموال لما له من لأهمية في العمل السياسي فالأحزاب السياسية تحتاج إلى تمويلات ضخمة أحيانا لتمويل حملاتها السياسية و الانتخابية ووسائل الاتصال و الأعمال الإدارية و التنقلات والتدريب.. وعند وضع استراتيجيات جمع المال لا بد من مراعاة العديد من الأمور عند اختيار لجنة جمع المال وحسن استغلال المناسبات و الأحداث و القوانين الجبائية الخاصة بالمتبرعين و اللذين تهمهم سياسات الحزب و برنامجه كما يجب عدم الاعتماد على مصدر واحد لجمع المال و تقويم نجاح أساليب جمع الأموال المختلفة بشكل مستمر.



5- تنمية قياداته و إطاراته السياسية:

بالإضافة إلى منتسبيه وفتح المجال لتجدد أجياله القيادية والى صعود الأشخاص الأكثر كفاءة و أكثر حشدا للناخبين سواء المضمونين أو المحتملين..( تنظيم فريق تدريبي ،تحديد الهدف من التدريب و تحديد الأشخاص المشاركين ووضع برنامج التدريب وإعداد الميزانية وخطة العمل و مهام الفريق، تكليف المدربين بمهامهم و جعل نشاطات التدرب شيقة....)

كل هذه العناصر التي أشرنا إليها تشكل مجتمعة محاور و نقاط لتقييم نجاعة حزب و فعاليته وطرق تلبيته للاحتياجات السياسية لبلد ما و من ناحية أخرى في تلبية تلك الاحتياجات بشكل مختلف بين الأحزاب السياسية. فالعوامل الداخلية كما الخارجية تؤثر على أساليب الحزب وقدراته وطرق استجاباته للأحداث،
ويتطلب إحداث النقلة الديمقراطية داخل بعض البلدان التخلص من الكثير من الافتراضات و الممارسات القديمة التي كانت سائدة في الأنظمة السياسية السابقة و أن الخصم و المنافس السياسي ليس عدوا لدودا وأن التوصل إلى بناء تحالفات و حلول وسطى و إشراك الآخرين في السلطة ليس ضعف بل هي جوهر العملية الديمقراطية و جوهر النظام السياسي الديمقراطي الضامن الأكثر حظا لاستمرارية الجميع والنظام الأكثر قدرة على الحفاظ على الاستقرار السياسي و التنمية المستديمة للجميع. فعملية بناء المؤسسات الديمقراطية و تنمية الممارسات الديمقراطية هي عملية ديناميكية مستمرة.
وحتى داخل الأنظمة السياسية السلطوية و التي بإمكانها أن تزين واجهاتها بتعددية حزبية تتحكم في مفاصلها و مداخلها و مخارجها، وتفرض على الأطراف الحزبية قيودا قانونية تحد من امتدادها وفعاليتها و تحجيم قواعدها و مواردها و إمكانياتها المالية و خلق حالة من الفراغ حولها،قلنا رغم هذه الظروف فان الأحزاب السياسية المتواجدة يجب أن تراهن على بناء تنظيماتها الحزبية على أساس من الديمقراطية والأخذ بالأساليب العصرية و الاهتمام بالمستوى المحلي لأن قوة أي حزب سياسي على المستوى الوطني و استقراره و نجاح مرشحيه في الانتخابات على جميع المستويات أمورا مرتبطة ارتباطا وثيقا بعدد أعضاء الحزب الناشطين و المتحمسين و المؤيدين له على المستوى المحلي، وعلى هذا الأساس لا بد من أن تكون كل قاعدة محلية للحزب السياسي قوية و راسخة لنمو الحزب و نجاحه.

* و المقال خلاصة لسلسلة من الأدلّة التدريبية الموجّهة للرّفع من كفاءة و نجاعة الأحزاب السياسية.

الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

الانتخابات آلية من آليات التغيير السياسي....لكن؟

الانتخابات آلية من آليات التغيير السياسي....لكن؟


حافظ الجندوبي


تعتبر الانتخابات إحدى منتجات النظام السياسي الديمقراطي،فالنظام السياسي الديمقراطي نظام تنافسي بين برامج قوى سياسية مختلفة داخل المجتمعات،الانتخابات هي الآلية الضامنة للتغيير السلمي و التداول السلمي على السلطة، وغير ذلك لا يكون إلا الاستبداد من طرف الأنظمة و العنف المقابل من طرف المعارضين أو عزوف عن الشأن العام من قبل المواطنين و بالتالي ضعف تمثيلية السياسات و الخيارات و تهديد للتنمية في بعدها الواسع وفي أمدها الطويل، و الانتخابات ليست أول الديمقراطية و ليست في حد ذاتها دليل على الديمقراطية في مجتمع من المجتمعات لأننا بتنا نشهد تنظيم انتخابات في عدة دول من العالم يكون فيها مرشح السلطة يجري لوحده في حلبة الصراع، و قد يعاضده في ذلك بعض الوجود الشكلي لمرشحين آخرين أو حتى أطراف سياسية معارضة بجدية لكنها بتمثيلية مفقودة داخل المجتمع جراء احتكار الأنظمة السلطوية للفضاء السياسي و لأن هذه الأطراف غارقة في النخبوية أو خارجة عن سياق مجتمعاتها أصلا، هنا تصبح الانتخابات نفسها جزء من لعبة السلطة توظفها في الغالب و تسوقها للخارج و فقط ،لأن المواطنين بالداخل يعلمون ما يعلمون من فساد هذه الانتخابات و الظروف التي تجري فيها و النكت السياسية التي تصدر شعبيا مع كل انتخابات تحوم حول المرشحين و برامجهم ثم حول العزوف عن التوجه لصناديق الاقتراع ثم حول النتائج .

الانتخابات لا تكون آلية من آليات التغيير السياسي إلا في الدول التي تكون إما في مرحلة حقيقية من الانتقال الديمقراطي أو في الأنظمة الديمقراطية بطبيعة الحال أما في ظل أنظمة سلطوية فلن تكرس الانتخابات إلا الواقع السياسي نفسه و تعيد إنتاجه مع بعض التفاصيل الجديدة و الوجوه الجديدة لتقوم بنفس الأدوار القديمة، إن نزاهة و ديمقراطية و تمثيلية الانتخابات تبتدئ من أسس لا بد من تواجدها و إلا صار الأمر عبثا و إهدار للأموال العمومية و إعادة اقتسام غنائم السلطة(وما يقع أثناء فترة إعداد القائمات يؤكد هذا البعد المغانمي للمترشحين)..

إن الديمقراطية الحقيقية تمتحن فعلا يوم الانتخابات و قبله و بعده، و لكن نظام سياسي يدار بذهنية الحزب الواحد، و عقلية التفرد ،و المنّ بالنسب على باقي الأطراف السياسية وهي في النهاية عملية مكافئة لأدوار تؤديها داخل هذا النظام السياسي المغلق لا يمكن اعتباره سوى مؤشر أن الانتخابات لن تكون ديمقراطية حتى ولو كانت شفافة كشفافة صناديقها....

إن إقصاء العديد من القوى الحقيقية و ضعف تمثيلية النظام السياسي ككل لقوى المجتمع الحقيقية لن يضع بطبيعة الحال أي نظام سلطوي موضع التهديد و بالتالي فهو في الغالب غير مطالب أصلا بتزوير الانتخابات لأن الإرادة الشعبية في أصلها مزورة في تمثيليتها..

وعدم السماح بتواجد برامج سياسية بديلة و مضايقة و تأميم الفضاء السياسي وتواصل حياة الأطراف السياسية عن طريق قوارير الأكسيجين مؤكد أنه سيخلق حالة من العبثية و العدمية و العزوف عن المشاركة و الاهتمام بالشأن العام،

إن استقواء الأحزاب الحاكمة بكل مؤسسات الدولة من جيش و شرطة و إعلام و إدارة ومنابر دينية أكيد أيضا أنه لن يؤدي إلى انتخابات تتساوى فيها الفرص بين المرشحين..

وأن تشرف على الانتخابات وزارات الداخلية وهي جزء من السلطة التنفيذية، إلى جانب أنها في مجتمعاتنا العربية أكثر الأطراف المتهمة بانتهاك حقوق الإنسان و المواطن، و أقلها احتراما للمواطنين فكيف ستضمن فعلا حقه في انتخابات يعبر فيها عن إرادته وهي أصلا الراعية للاستبداد و المحافظة عليه....

ان المراهنة على الانتخابات في ظل أنظمة سلطوية تقر بتعددية حزبية مضبوطة تتحكم فيها وزارات الداخلية ، لتغيير الواقع السياسي و التداول على السلطة أمر يبعث على القلق والحيرة، و لم يؤكد أبدا انه حل،و لذلك تسعى بعض الأطراف السياسية للمقاطعة حتى لا تصبغ عليها مزيد من الشرعية و بعض الأطراف تشارك مدعية أن رهانها سياسي و ليس انتخابي و استغلال الحدث الانتخابي لتسويق رؤاها السياسية....

إن ساحاتنا السياسية تعيش الكثير من الفوضى وعدم وضوح المطلوب في هذا الواقع السياسي الضاغط ،مما جعل تحركاتها السياسية تحركات موسمية تغيب فيها الاستمرارية والتراكمية، لا يزال الإيديولوجي يعلو فيها ممثلا عائقا كبيرا أمام مرونة السياسي و غياب الراهنية السياسية المطلوبة في ظل ضعف القوى الاجتماعية و السياسية و افتقاد القيادات التي بإمكانها أن تحقق حتى الحدود الدنيا فالتحالفات السياسية فاشلة و التحالفات الانتخابية فاشلة،و بالتالي تزيد الأطراف السياسية الضعيفة أصلا ضعفا على ضعفها نتيجة انتشار عقد الزعاماتية وانعدام الثقة بين الأطراف السياسية، إلى جانب الانتهازية و قلة المصداقية لأسماء باتت تشكل عبئا على تطور حركة معارضة سياسية جديرة بالاحترام بإمكانها أن تمثل و تعبر عن مطالب المرحلة بكل وضوح و جدية و مصداقية،ومن البديهي أن مصلحة كل من في الحكم الإبقاء على هذه الأوضاع إما استغلالا و استثمار و مكاسب تتحقق بهذا الوضع أو كذلك خوفا من التغيير الحقيقي و استتباعاته...

الاستجداء الأخلاقي لن يغير الكثير فهو استجداء الضعفاء،الواقع السياسي لا يتغير إلا بالفعل و العمل و بالتقييم الذاتي و تجاوز المطبات و العوائق الداخلية للقوى السياسية والاجتماعية المتواجدة، و التوفيق بين الآني و الاستراتيجي و التفريق بين الرؤى التي يجب أن تكون واضحة حاشدة للمواطنين وجامعة ، و الأهداف التي يجب أن تكون عملية والوسائل التي يجب أن تكون واقعية ومرنة،

الاستجداء الخارجي لن يضمن شيئا( إما بقوى خارجية أو انتظار تغير السياق الدولي) أثبت أيضا عدم إستراتيجيته إلى جانب لا أخلاقيته ونفرت مجتمعاتنا العربية منه،إن سنوات الضغط التي شكلتها استراتيجة إدارة بوش لتحويل المنطقة العربية إلى ديمقراطيات و ضخ هذه الإدارة لأموال كثيرة من أجل إحداث تغيير باء بالفشل و أرجع الأمور إلى الخلف ووضع العديد من القوى التي راهنت على هذه الإدارة في مواقع لا تحسد عليه،إلى جانب أن القوى الخارجية لا ترغب في أكثر من استبداد ناعم و ديمقراطية مضبوطة ومصالحها مضمونة،و الغرب يعادي كل التطلعات و كل القوى الوطنية و الديمقراطية و يعتبر استمرار الحال على حاله خير من أنظمة سياسية وطنية تضع حدا لألاعيبه الخبيثة و مؤامراته وتلاعباته التي لا تنتهي على أوطاننا انهم يسخرونا منا و بنا و يحكمون حاضرنا و يريدون أن يسيطروا على خيارات مستقبلنا و يرهنوه على ذمة مصالحهم،

إن قضية الحرية في أوطاننا لا تنفك عن بعدين متلازمين غير منفصلين ومن أراد في غيرهما سبيلا فهو جاهل أو يتجاهل انهما معركتين ضد طرفين لأجل قضية واحدة ، أحد طرفيهما أنظمة فاسدة مستبدة بالداخل و استراتيجيات غربية تصب صبا في منطقتنا تحت مسميات عديدة،إن الضامن لحريتنا الداخلية هو رفع سقف المقاومة ضد كل التدخلات الأجنبية مقاومة بكل أشكالها و أنواعها و في نفس الوقت رفع سقف الوعي الداخلي و تشكيل أحزمة ضغط على أنظمة ليس لها من شرعية إلا في أجهزة بوليس و ثقافة الخوف التي زرعت في نفوس الشعوب.

السبت، 21 أغسطس 2010

سياسات التنمية الجهوية: شروط جديدة للنجاعة و الفعالية

سياسات التنمية الجهوية: شروط جديدة للنجاعة و الفعالية
حافظ الجندوبي

في عالم متغيّر معقّد و متجدّد لا يسعنا فيه ابتداء إلا إعادة النظر في طرق رؤيتنا للأشياء وبنائنا للسياسات وفهمنا لبيئتنا وفي إطار محاولة تركيز الضوء على قضية من القضايا أو إشكالية من الإشكاليات أتناول هذه المرّة موضوع التنمية الجهويّة.

و نحن نحاول فهم الخلل و النتائج الغير مرضية للسياسات التنموية، وقد تحوّلت بعض الجهات إلى مستحقين للدعم والإحاطة أكثر من (ما إذا فعلا أريد لها) أن تكون فاعلة ومساهمة في النمو الاقتصادي الوطني و الناتج الوطني الخام، الواقع التنموي بدا يطرح أسئلة جديدة حول قدرة الفاعلين الجهويين و المحليين الحقيقية
و الواقعية للتفاعل مع رؤية تنموية شاملة ديناميكية تأخذ بعين الاعتبار السياقات و البيئات المتحولة و المتحركة من جهة و إلى خصائص المناطق وحجم قدرتها الحقيقي الطبيعي أو الناتج عن السياسات المتخذة والمنفذة منذ عقود، إن الطابع العام للسياسات التنموية السابقة أنها تميزت بأمرين اثنين أنها كانت متأثرة بسياقات إيديولوجية أو بأوامر وتوجيهات المنظمات و الفاعلين الدوليين مما أدى في النهاية إلى عدم الرغبة في بسط الرؤية الوطنية للتنمية على الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين و السماح بحوار وطني وديمقراطي يحدد الخيارات
و الاختيارات و الرؤى والمناهج و الاستراتيجيات.

إنّ أي تنمية جهويّة حقيقية هي نتاج لحيوية والديناميكية الذاتية والقدرات المحلية الطبيعة والاقتصادية و الثقافية والاجتماعية لهذه الجهات والأقاليم،إن الفاعل السياسي اليوم مطلوب منه فهم العناصر و العوامل المختلفة التي تحرك الجهات و تعطيها طابعها الخاص و ثقافتها الخاصة المتراكمة عبر أجيال و أجيال و الفاعل السياسي ليس عليه أن يتسلّط و يلغي بقية العناصر بل إنّ نجاحه يكمن في مدى قدرته على جعل كل هذه العناصر و العوامل تتناسق وتتواصل في نسق تنموي يحقق الأهداف و يحد من السلبيات و إن من المآخذ على السياسة المركزية للتنمية هي طمسها لطبيعة وخصوصيات المناطق و تعويض الديناميكية الذاتية بالشعارات السياسية التي غالبا ما تكون مرحلية وبالإمكان توريط جهات في سياسات واستراتيجيات تنموية ما أسهل ما يقع التخلّي عنها لاحقا .
وفي هذا الإطار شهدت بلادنا تداول العديد من مناويل التنمية و التخلي عنها دون تقييم جدي و موضوعي مثلما وقع فرضها دون رؤية واضحة ودون مبررات محلية ودون تحريك الفواعل المحليين و الجهويين فيها.
و التنمية الجهوية هي نتاج للمبادرات الذاتية و المحلية قبل أي عناصر فوق- او خارج -محلية،لكن ثقافة المبادرة هاته تحتاج أيضا إلى ثقافة من التحفيز على الاعتماد على الذات وترك مجال من الديمقراطية المحلية تشجع على التنافسية الخلاقة و الناقدة و المقيمة و في ظل انعدام مثل هذه البيئة الديمقراطية السليمة يصبح الحديث عن ثقافة المبادرة والبرامج الخلاقة من قبيل الدعايات و الشعارات السياسية وبلا مضمون.
النخب و الكفاءات المحلية رغم أهميتها في إدارة جهاتها وتنميتها، ورغم أن المقاربة التنموية التي تعتمد على الإنسان و المواطن الحر والمبادر تبقى هي أفضل المقاربات التنموية لأنها هي بالذات التي تحدث الفرق و التميّز بين الجهات ، فانّنا مازلنا دون هذا المستوى نتيجة لتراكمات تاريخية و أسبقيّات ومنظومات متداعية لم تعد لها القدرة حتى للمحافظة على ما أنجز فكيف بتحقيق التميز و التقدم؟ و نتيجة أيضا لنظام سياسي مركزي و سلطوي يفضل المراقبة و السيطرة على الجميع بدل تشجيع الاعتماد المحلي على الذات أو على الأقل وضع السكّة من اجل مستقبل تصبح فيه الدولة قوية بقوة أعضائها الجهويين و المحليين لا دولة قوية لضعف ديمقراطيتها المحلية و ارتهان و اعتماد جهاتها و أقاليمها على المركز.

إنّ واقع الجهات لن يتغير بالأوامر الرشيدة و لا بالقرارات الحكيمة المسقطة من فوق بل بايصال صورة حقيقية وواقعية عن الأوضاع أولا، إن هاجس المركز السياسي في أن القوة في الوحدة و التركّز السياسي وانّ الضعف يأتي من التشتت هذا الكلام قد يبدو سليما لكن أيضا يجب فهم أن العالم الذي يتغير لم يعد يسمح بهكذا مقاربات سلطوية ، و يجب أن تعلم السلطة أنّ العالم لم يعد يسمح ليس لأن المعارضة تقول ذلك بل لأن الواقع و العقل يقولان ذلك و يؤكدانه كل يوم، و إن الوحدة الوطنية في معظم الخيارات مازلت مطلوبة لكن أليس من الأفضل الوحدة في ظل رؤية جامعة تختارها الأغلبية ديمقراطيا و تحترمها الأقلية ديمقراطيا ،أليس من الأفضل التوحّد حول رؤية صلبة النواة بشرعية تستمدها من القاعدة المجتمعيّة ومن الواقع و تحدياته، أليست هي الضامن الحقيقي و الأفضل أيضا لحماية السيادة في زمن العولمة والاختراقات المختلفة. و انهي الحديث في هذا الموضوع بحادثة قريبة و ذلك في إحدى اللقاءات مع شخصية سياسية ألمانية في علاقة بصندوق النقد الدولي وجهت له ملاحظة" سيدي إنّ السياسات التي تفرضونها علينا و بالتدقيق على حكوماتنا قد أفرغت كل عمل سياسي داخلي من أي مضمون ومن أي هامش ديمقراطي،فان كانت الخيارات مرسومة ومسقطة من لديكم فماذا بقي للفاعلين الاجتماعيين و السياسيين و الاقتصاديين داخل بلدي للتنافس عليه ديمقراطيا، إن سياسة صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الاقتصادية العالمية تقضي على فرص التحولات الديمقراطية داخل عالمنا النامي" قال لي "إن الحكومات تكذب وهي ترمي بفشلها و خيباتها على السياسات المفروضة وهي تستغل مثل هذا الكلام لتبرير سلطويتها وعجزها عن فعل أي شيء......"......ولنا عودة مع التنمية الجهوية....

الثلاثاء، 2 فبراير 2010

قراءة في خطاب السلطة التونسية حول الشباب


قراءة في خطاب السلطة التونسية حول الشباب

بعد الإعلان عن سنة 2008 سنة للشباب اكتملت بصياغة ميثاق على كبر كلماته و شعاراته و صغر عمره، انتهى الأمر به كما تعلمون إلى تناسي الموضوع و رميه في سلة الإهمال على ما فيه، وما عليه، وكيف بدأ؟ و أين انتهى؟تعود هذه السنة ليطفو موضوع الشباب إلى السطح بإقراره سنة دولية للشباب، فهل يمكن الحديث عن تقدم ملحوظ في موضوع الشباب ؟ وهل خرج الخطاب من رمي المسؤولية على الشباب و تأثيمه بفقدانه لنوازع الوطنية و حب التضحية و العطاء وفراغه من قيم المواطنة؟وهل حمل الخطاب رؤية أكثر وضوح وإقرار بمكامن وعلل الفشل؟ وهل هذا الخطاب الذي أتى بالصيغة المعممة هي استبطانا للعجز ولقصور في تعامل الدولة مع موضوع الشباب؟ أو هو يستبطن ترك كيف تكون المخارج للحوار و الاستشارات المقررة ؟ إذا ما دور الاستشارات السابقة و أين وصلت؟ و هل وصل الحوار السابق وميثاق الشباب إلى الاعتقاد بأنه غير كافي وعجز عن استقراء واقعه و تشخيص مكامن دائه؟

خطاب السلطة في اعتقادنا لم يخرج عن السائد و المألوف، ففي اعتقادي بدايته توحي بنوع نهايته، الخطاب بقي يستنجد بالقاموس القيمي ( أهمية الحرية و العدل و السلام و الثقة......) في خطاب إعلامي تسويقي أكثر منه بداية مرحلة جديدة، كلمات و شعارات قابلة للتمطط إلى حد التعارض في التأويلات، بدل قاموس الحقوق الواجبات و قاموس تحمل المسؤوليات ، وبقي خطاب يستنجد بالمصطلحات التي لا نعرفها إلا في الكتاب المدرسي ( كالديمقراطية والمواطنة وحقوقها وواجباتها...) وهي مصطلحات تكرر و تعاد في الخطاب، وكلما انتظرنا آلية عملية وإقرار موضوعي بصعوبة المخارج في ظل نظام سياسي يعاني ازدواجية أو انفصام بين الخطاب و الممارسة، إلا ازداد الخطاب في التعميم والتعويم الخطابي،

الخطاب السياسي للسلطة يستشعر مدى ضرر الازدواجية و الفجوة القائمة بين الخطابات و الشعارات من ناحية والممارسة و قصور السياسات من ناحية أخر...و رغم هذا يتجه من جديد إلى الفرار من تحمل المسؤولية الواضحة وتحويل المصرح به إلى ممارسات عملية حقيقية ،و رغم أن الخطاب صار يشير بوضوح "أن الشباب في كل أمة هم الفئة المعرضة أكثر من سواها لتأثير الأخطاء المحلية و الاختلالات العالمية...." 1، فالعقلية التي تستبطن الخطاب هي عقلية أننا نريد وضع استراتيجيات و سياسات للشباب وعن الشباب و ليس مع الشباب و الفرق واضح بين العقليتين.

و أعطي مثال من داخل الخطاب 2 حول وضع مشروع قانون للعمل التطوعي و أن الرغبة ذاهبة إلى إقرار اجرءات تشريعية جديدة، رغم أن المطلوب مثلا وبكل وضوح هو التخلي عن قانون الجمعيات القديم و الذي نشأ في سياقه السياسي الخاص به ، و العودة إلى الدستور التونسي وهو أن التنظم و حرية التعبير هي الأصل في الأشياء و أن القضاء هو الجهة الوحيدة المخولة لتنظر في تطابق قوانين و مواثيق وممارسات هذه الجمعيات مع ما لا يمكن أن يمس من حرية الآخرين وحقوقهم، و لا أيضا تلك الكلمات الفضفاضة التي تتحدث عن الأمن العام و الأخلاقي و مقتضيات المصلحة الوطنية، ولا يجب أن يكون الترخيص و المنع بيد وزارة الداخلية كجزء من السلطة التنفيذية التي تمسك مداخل الحياة العامة و الشأن العام معتمدة فقط مقاربة أمنية و عقلية توجسية ، و أعتقد أن هذه مسؤولية الدولة و السلطة التي عليها مزيد رفع العوائق التنظيمية و القانونية حتى تستجيب هذه الجمعيات لتطلعات الشباب و يصنعوا فضاءاتهم التي يريدونها لا الفضاءات التي تراد لهم،بهذه الممارسة نستطيع أن نثق أن الشباب التونسي بإمكانه الإبداع و تحسس مكانه الطبيعي والحقيقي في المجتمع بدون خوف من تسجيله في القائمات السوداء و معاقبته بالإقصاء و التهميش و ملاحقته في رزقه و تهديد مستقبله..

ولعل المحاكمات الأخيرة لبعض الطلبة وكغيرها من المحاكمات السابقة لهي الدليل على أن خيار السلطة الوحيد الذي نراه إلى اليوم هو الخيار الأمني، والشباب أيضا ليس منفصل عن واقع بلاده السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي بل لعله كما أشار الخطاب هو الضحية لكل الخيارات الخاطئة و الأخطاء المحلية ، فآلاف من الشباب التونسي عاني بصفة مباشرة أو غير مباشرة مما كان سائدا في التسعينات من جو طغى عليه الرعب و التخويف و اختلط الأمر و تعمد البعض خلطه لغايات متعددة، فأصبح الشأن العام في عقل كل شاب بمن فيهم الأجيال الجديدة مقابل للسجن و التعذيب وصار الشباب لا يثق في السلطة و يعتبر خطاباتها و شعاراتها هي للتسويق الإعلامي و الخارجي لا أكثر و لا أقل، و فشلت السلطة في أحداث سليمان وضيعت على نفسها فرصة تغيير وسائل التعامل مع الشباب التونسي فخرجت إلينا من جديد أخبار الاعتقالات و التعذيب و المحاكمات في جو يوحي و يؤكد أن السلطة ليس في جعبتها سوى التعامل الأمني ،أن يقف التعامل عند حده الأمني فهذا لا يعقل و لا يشجع شابا على الجرأة و تجاوز الخطوط الحمراء للرقابة الذاتية والموضوعية، خاصة إذا ما ارتبط في مخيلة المجتمع و الشباب بالسجن و التعذيب و انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان في حرمته الجسدية و في المحاكمة العادلة، و أعتقد انه لا يمكن كسر هذه الحواجز إلا بكف السلطة عن ممارساتها التضييقية و العقابية و سلك نهج الوئام و المصالحة الحقيقية مع بقية الأطراف السياسية دون استثناء ولا إقصاء، فهذا وحده الكفيل بترميم الثقة و الاستفادة الجماعية من كل فريق سياسي حتى ولو كان أقلية،وإذا تمكن الكبار من تجاوز هذه المحن فستكون بعدها منح تفيد في بناء تونس لجميع مواطنيها بمن فيها الشباب...

لم يعد من الممكن أن نتقدم خطوة و لا نصلح حاضرا و لا نأمل كثيرا في مستقبل إلا إذا تمكنت تونس بكل مكوناتها من القيام بمصالحة بل بمجموعة مصالحات،مصالحة مع الذات و الهوية،مصالحة مع القيم و الضمير،مصالحة مع المواطنة و الوطنية و الوطن،مصالحة مع عقلية المؤسسات و سيادة القانون،مصالحة بين فئات الشعب التونسي و مختلف تياراته،مصالحة مع الإنسان، تكون مجموعة مصالحات حقيقية لا مجرد مهرجانات خطابية و شعارات مناسباتية وسياسات ظرفية أو معالجات أمنية ...

جميعا نقر بأننا نشهد و نعيش عالما غير العالم الذي عشناه منذ عقود بل منذ سنوات،التحولات السريعة و التغيرات تعقدت و المشاكل ازدادت صعوبة و تركيبا ، ومع ذلك مازلنا لا نستحي من مواصلة نفس أدوات الحكم و التسيير و نفس ثقافة البيوت المغلقة و العقول المقفلة و القلوب الحاقدة،مازلنا في بركة مياه آسنة،خطابات خشبية و عقليات متخشبة ونفوس لا تستحي وهي تناقض نفسها بين الصباح و المساء بل في نفس الوقت، نعدم الحرية و نحن نتحدث عنها ،نستهين بكرامة الإنسان و حقوقه ونحن نصفق لمركزية المقاربة الحقوقية في خياراتنا التنموية،كلام وكلام و شعارات صارت عاجزة أن تجد لها مهبط آمن على أرضنا ووطننا،أصبح ساستنا و نخبنا أقرب للشعراء يقولون مالا يفعلون و بكل واد يهيمون و لا يتبعهم إلا الطامعون و الواهمون...

1 و2 اعتمدت خطاب رئيس الدولة بمناسبة الندوة الدولية ألأخيرة حول الشباب